مجلة الأمن – العدد 544 – يونيو 2020م
أثناء الحرب العالمية الأولى وتحديداً في عام 1918 تفشى وباء في معظم أنحاء العالم سُمي بالإنفلونزا الإسبانية « Spanish Flu »، حيث تم التعتيم على الوباء منذ بداياته من قبل أطراف الحرب لعدم رغبتهم بالقضاء على الروح المعنوية لجنودهم من ناحية وعدم توقف الأنشطة المتعلقة بالمجهود الحربي من ناحية أخرى نتيجة الإغلاق التام للمصانع والقطاعات الاقتصادية الأخرى لضمان التباعد الاجتماعي لمنع تفشي الوباء على أراضيهم، حيث لم يتم تداول أخبار وتقارير عن هذا الوباء إلا عبر الصحف الإسبانية التي كانت محايدة أثناء الحرب، لذا أطلق على هذا الوباء اسم الإنفلونزا الإسبانية، وتشير بعض المصادر بأن الوباء قتل ما لا يقل عن 20 مليون شخص خلال عامان فقط مقارنةً بحوالي 9 ملايين جندي قتلوا في الحرب العالمية الأولى التي استمرت 4 سنوات.
في الواقع، تغير العالم بعد انتهاء وباء الإنفلونزا الإسبانية في عام 1920 وذلك على أكثر من صعيد، فعلى مستوى العلاقات الدولية انكفأت دول العالم في شؤونها الداخلية لإصلاح منظومتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث تم تأسيس وزارات وهيئات للصحة في معظم دول العالم كبريطانيا وفرنسا وروسيا، فقد كانت الدول آنذاك تفتقر إلى أنظمة رعاية صحية تشمل جميع مواطنيها والمقيمين على أراضيها. كما أشارت الدراسات بأن الدول التي طبقت سياسة التباعد الاجتماعي الأكثر صرامة في مدنها أثناء الوباء جنت فوائد اقتصادية كبرى بعد نهايته. ومن الناحية الاجتماعية صعدت التيارات اليمينية المتطرفة في المشهد السياسي لأغلب دول أوربا نتيجة التغيرات التي حدثت بمجتمعاتها بعد هذه الأزمة والتي صعَّدت من النزعة القومية لديها، كصعود حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني «أو ما يُطلق عليه الحزب النازي» للسُلطة في ألمانيا عام 1933، فوفقاً للدراسة الأكاديمية التي أعدها كريستيان بليكل بعنوان «Pandemics Change Cities: Municipal Spending and Voter Extremism in Germany, 1918-1933»، فإن وباء الإنفلونزا الإسبانية أعاد تشكيل المجتمع والنظام السياسي في ألمانيا، حيث أن عدد وفيات الوباء أثَّر بشكل بالغ في حجم الأصوات الكبيرة التي كسبها الحزب النازي في انتخابات عام 1933، حيث تغير السلوك الانتخابي في المدن الألمانية التي سجلت أعلى معدلات للوفيات جراء الوباء لصالح هذا الحزب اليميني المتطرف.
وبعد مائة عام من انتهاء وباء فيروس الإنفلونزا الإسبانية ظهر وباء عالمي جديد يُدعى فيروس كورونا المستجد (COVID-19)، حيث لا تزال دول العالم تكافح تفشي هذا الوباء داخل أراضيها بالتزامن مع حماية اقتصاداتها من الركود لتوقف عجلة دورانها بسبب تطبيقهم اجراءات العزل والتباعد الاجتماعي التي اثبتت نجاحها كاستراتيجية للتصدي لتفشي الأوبئة، حيث أن الفيروس لا يوجد له لقاح أو علاج ناجع حتى حين كتابة هذا المقال. وعليه فإن عالم ما بعد فيروس كورونا المستجد (COVID-19) لم يتبلور بعد، ولكن بالإمكان تجنب تبعاته من خلال الالتزام بتعليمات التباعد الاجتماعي واستغلال الفرص الاقتصادية المتاحة حالياً والبناء عليها بعد انتهاء الوباء كدعم المشاريع الوطنية المتوسطة والصغيرة لأنها تعتمد غالبيتها على موارد محلية ولا تحتاج لدعم لوجستي من الخارج والذي توقف نتيجة إغلاق الحدود البرية والبحرية والجوية مع معظم دول العالم، حيث أن العائد المباشر والغير مباشر من الاستثمار في تلك المشاريع كان ولا يزال عالي جداً بالوقت الراهن، لأن المستهلك المحلي لا يجد البدائل المستوردة لمنتجات تلك المشاريع وبالإمكان تصدير الفائض منها خارج الدولة للاستفادة من عوائدها المادية في تعزيز الاقتصاد الوطني.